سورة الأنبياء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)}
(القصة الخامسة، قصة داود وسليمان عليهما السلام)
اعلم أن قوله تعالى: وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون، كله نسق على ما تقدم من قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِن قَبْلُ} [الأنبياء: 51] ومن قوله: {وَلُوطاً اتيناه حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 74] واعلم أن المقصود ذكر نعم الله تعالى على داود وسليمان فذكر أولاً النعمة المشتركة بينهما، ثم ذكر ما يختص به كل واحد منهما من النعم.
أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهي قصة الحكومة، ووجه النعمة فيها أن الله تعالى زينهما بالعلم والفهم في قوله: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها، وذلك لأن الله تعالى قدم ذكره هاهنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن. وإذا كان العلم مقدماً على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلاً ونهاراً.
المسألة الثانية: أكثر المفسرين على أن الحرث هو الزرع، وقال بعضهم: هو الكرم والأول أشبه بالعرف.
المسألة الثالثة: احتج من قال: أقل الجمع إثنان بقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين} مع أن المراد داود وسليمان. جوابه: أن الحكم كما يضاف إلى الحاكم فقد يضاف إلى المحكوم له، فإذا أضيف الحكم إلى المتحاكمين كان المجموع أكثر من الإثنين، وقرئ وكنا لحكمهما شاهدين.
المسألة الرابعة: في كيفية القصة وجهان.
الأول: قال أكثر المفسرين: دخل رجلان على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وما أبقت منه شيئاً، فقال داود عليه السلام: «اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه: فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك داود عليه السلام فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما، فقال: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا كان الحرث من العام المستقبل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه».
الثاني: قال ابن مسعود وشريح ومقاتل رحمهم الله: أن راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم، فذهب صاحب الكرم من الغد إلى داود عليه السلام فقضى له بالغنم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الغنم تفاوت، فخرجوا ومروا بسليمان فقال لهم: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه به، فقال غير هذا أرفق بالفريقين، فأخبر داود عليه السلام بذلك فدعا سليمان وقال له: بحق الأبوة والنبوة إلا أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين، فقال: تسلم الغنم إلى صاحب الكرم حتى يرتفق بمنافعها ويعمل الراعي في إصلاح الكرم حتى يصير كما كان، ثم ترد الغنم إلى صاحبها، فقال داود عليه السلام: «إنما القضاء ما قضيت وحكم بذلك».
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حكم سليمان بذلك وهو ابن إحدى عشرة سنة، وهاهنا أمور ولا بد من البحث عنها.
السؤال الأول: هل في الآية دلالة على أنهما عليهما السلام اختلفا في الحكم أم لا؟ فإن أبا بكر الأصم قال: إنهما لم يختلفا ألبتة، وأنه تعالى بين لهما الحكم لكنه بينه على لسان سليمان عليه السلام.
الجواب: الصواب أنهما اختلفا والدليل إجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على ما رويناه، وأيضاً فقد قال الله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين} ثم قال: {ففهمناها سليمان} والفاء للتعقيب فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقاً على هذا التفهيم، وذلك الحكم السابق إما أن يقال: اتفقا فيه أو اختلفا فيه، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله: {ففهمناها سليمان} فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب.
السؤال الثاني: سلمنا أنهما اختلفا في الحكم ولكن هل كان الحكمان صادرين عن النص أو عن الاجتهاد.
الجواب: الأمران جائزان عندنا وزعم الجبائي أنهما كانا صادرين عن النص، ثم إنه تارة يبني ذلك على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء، وأخرى على أن الاجتهاد وإن كان جائزاً منهم في الجملة، ولكنه غير جائز في هذه المسألة.
أما المأخذ الأول: فقد تكلمنا فيه في الجملة في كتابنا المسمى بالمحصول في الأصول ولنذكر هاهنا أصول الكلام من الطرفين احتج الجبائي على أن الاجتهاد غير جائز من الأنبياء عليهم السلام بأمور:
أحدها: قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} [يونس: 15] وقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3].
وثانيها: أن الاجتهاد طريقه الظن وهو قادر على إدراكه يقيناً فلا يجوز مصيره إلى الظن كالمعاين للقبلة لا يجوز له أن يجتهد. ثالثها: أن مخالفة الرسول توجب الكفر لقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ومخالفة المظنون والمجتهدات لا توجب الكفر.
ورابعها: لو جاز أن يجتهد في الأحكام لكان لا يقف في شيء منها، ولما وقف في مسألة الظهار واللعان إلى ورود الوحي دل على أن الاجتهاد غير جائز عليه.
وخامسها: أن الاجتهاد إنما يجوز المصير إليه عند فقد النص، لكن فقدان النص في حق الرسول كالممتنع فوجب أن لا يجوز الاجتهاد منه.
وسادسها: لو جاز الاجتهاد من الرسول لجاز أيضاً من جبريل عليه السلام وحينئذ لا يحصل الأمان بأن هذه الشرائع التي جاء بها أهي من نصوص الله تعالى أو من اجتهاد جبريل؟ والجواب عن الأول: أن قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} [يونس: 15] لا يدل على قولكم لأنه وارد في إبدال آية بآية لأنه عقيب قوله: {قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ} [يونس: 15] ولا مدخل للاجتهاد في ذلك.
وأما قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] فبعيد لأن من يجوز له الاجتهاد يقول إن الذي اجتهد فيه هو عن وحي على الجملة وإن لم يكن كذلك على التفصيل، وإن الآية واردة في الأداء عن الله تعالى لا في حكمه الذي يكون بالعقل.
والجواب عن الثاني: أن الله تعالى إذا قال له إذا غلب على ظنك كون الحكم معللاً في الأصل بكذا، ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهاهنا الحكم مقطوع به والظن غير واقع فيه بل في طريقه.
والجواب عن الثالث: أنا لا نسلم أن مخالفة المجتهدات جائزة مطلقاً بل جواز مخالفتها مشروط بصدورها عن غير المعصوم والدليل عليه أنه يجوز على الأمة أن يجمعوا اجتهاداً ثم يمتنع مخالفتهم وحال الرسول أوكد.
والجواب عن الرابع: لعله عليه السلام كان ممنوعاً من الاجتهاد في بعض الأنواع أو كان مأذوناً مطلقاً لكنه لم يظهر له في تلك الصورة وجه الاجتهاد، فلا جرم أنه توقف.
والجواب عن الخامس: لم لا يجوز أن يحبس النص عنه في بعض الصور فحينئذ يحصل شرط جواز الاجتهاد.
والجواب عن السادس: أن هذا الاحتمال مدفوع باجماع الأمة على خلافه فهذا هو الجواب عن شبه المنكرين والذي يدل على جواز الاجتهاد عليهم وجوه:
أحدها: أنه عليه السلام إذا غلب على ظنه أن الحكم في الأصل معلل بمعنى ثم علم أو ظن قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فلابد وأن يغلب على ظنه أن حكم الله تعالى في هذه الصورة مثل ما في الأصل، وعنده مقدمة يقينية وهي أن مخالفة حكم الله تعالى سبب لاستحقاق العقاب فيتولد من هاتين المقدمتين ظن استحقاق العقاب لمخالفة هذا الحكم المظنون.
وعند هذا، إما أن يقدم على الفعل والترك معاً وهو محال لاستحالة الجمع بين النقيضين. أو يتركهما وهو محال لاستحالة الخلو عن النقيضين، أو يرجح المرجوح على الراجح وهو باطل ببديهة العقل، أو يرجح الراجح على المرجوح وذلك هو العمل بالقياس. وهذه النكتة هي التي عليها التعويل في العمل بالقياس وهي قائمة أيضاً في حق الأنبياء عليهم السلام.
وهذا يتوجه على جواز الاجتهاد من جبريل عليه السلام.
وثانيها: قوله تعالى: {فاعتبروا} أمر للكل بالإعتبار فوجب اندراج الرسول عليه السلام فيه لأنه إمام المعتبرين وأفضلهم.
وثالثها: أن الإستنباط أرفع درجات العلماء فوجب أن يكون للرسول فيه مدخل وإلا لكان كل واحد من آحاد المجتهدين أفضل منه في هذا الباب.
فإن قيل هذا إنما يلزم لو لم تكن درجة أعلى من الإعتبار، وليس الأمر كذلك، لأنه كان يستدرك الأحكام وحياً على سبيل اليقين، فكان أرفع درجة من الاجتهاد الذي ليس قصاراه إلا الظن.
قلنا: لا يمتنع أن لا يجد النص في بعض المواضع، فلو لم يتمكن من الاجتهاد لكان أقل درجة من المجتهد الذي يمكنه أن يعرف ذلك الحكم من الإجتهاد، وأيضاً قد بينا أن الله تعالى لما أمره بالإجتهاد كان ذلك مفيداً للقطع بالحكم.
ورابعها: قال عليه السلام: «العلماء ورثة الأنبياء» فوجب أن يثبت للأنبياء درجة الإجتهاد ليرث العلماء عنهم ذلك. هذا تمام القول في هذه المسألة.
وخامسها: أنه تعالى قال: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فذاك الإذن إن كان بإذن الله تعالى استحال أن يقول: لم أذنت لهم، وإن كان بهوى النفس فهو غير جائز، وإن كان بالاجتهاد فهو المطلوب.
المأخذ الثاني: قال الجبائي: لو جوزنا الاجتهاد من الأنبياء عليهم السلام ففي هذه المسألة يجب أن لا يجوز لوجوه؛ أحدها: أن الذي وصل إلى صاحب الزرع من در الماشية ومن منافعها مجهول المقدار، فكيف يجوز في الاجتهاد جعل أحدهما عوضاً عن الآخر.
وثانيها: أن اجتهاد داود عليه السلام إن كان صواباً لزم أن لا ينقض لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. وإن كان خطأ وجب أن يبين الله تعالى توبته كسائر ما حكاه عن الأنبياء عليهم السلام، فلما مدحهما بقوله: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} دل على أنه لم يقع الخطأ من داود.
وثالثها: لو حكم بالاجتهاد لكان الحاصل هناك ظناً لا علماً لأن الله تعالى قال: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}.
ورابعها: كيف يجوز أن يكون عن اجتهاد من مع قوله: {ففهمناها سليمان}.
والجواب عن الأول: أن الجهالة في القدر لا تمنع من الاجتهاد كالجعالات وحكم المصراة.
وعن الثاني: لعله كان خطأ من باب الصغائر.
وعن الثالث: بينا أن من تمسك بالقياس فالظن واقع في طريق إثبات الحكم فأما الحكم فمقطوع به.
وعن الرابع: أنه إذا تأمل واجتهد فأداه اجتهاده إلى ما ذكرنا كان الله تعالى فهمه من حيث بين له طريق ذلك. فهذه جملة الكلام في بيان أنه لا يمتنع أن يكون اختلاف داود وسليمان عليهما السلام في ذلك الحكم إنما كان بسبب الاجتهاد.
وأما بيان أنه لا يمتنع أيضاً أن يكون اختلافهما فيه بسبب النص فطريقه أن يقال: إن داود عليه السلام كان مأموراً من قبل الله تعالى في هذه المسألة بالحكم الذي حكم به، ثم إنه سبحانه نسخ ذلك بالوحي إلى سليمان عليه السلام خاصة وأمره أن يعرف داود ذلك فصار ذلك الحكم حكمهما جميعاً فقوله: {ففهمناها سليمان} أي أوحينا إليه فإن قيل هذا باطل لوجهين:
الأول: لما أنزل الله تعالى الحكم الأول على داود وجب أن ينزل نسخه أيضاً على داود لا على سليمان.
الثاني: أن الله تعالى مدح كلا منهما على الفهم ولو كان ذلك على سبيل النص لم يكن في فهمه كثير مدح إنما المدح الكثير على قوة الخاطر والحذاقة في الاستنباط.
المسألة الثالثة: إذا أثبتم أنه يجوز أن يكون اختلافهما لأجل النص وأن يكون لأجل الاجتهاد فأي القولين أولى.
والجواب: الاجتهاد أرجح لوجوه:
أحدها: أنه روى في الأخبار الكثيرة أن داود عليه السلام لم يكن قد بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان أن غير ذلك أولى، وفي بعضها أن داود عليه السلام ناشده لكي يورد ما عنده وكل ذلك لا يليق بالنص، لأنه لو كان نصاً لكان يظهره ولا يكتمه.
السؤال الرابع: بينوا أنه كيف كان طريق الاجتهاد.
الجواب: أن وجه الاجتهاد فيه ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن داود عليه السلام قوم قدر الضرر بالكرم فكان مساوياً لقيمة الغنم فكان عنده أن الواجب في ذلك الضرر أن يزال بمثله من النفع فلا جرم سلم الغنم إلى المجنى عليه كما قال أبو حنيفة رحمه الله في العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وأما سليمان عليه السلام فإن اجتهاده أدى إلى أن يجب مقابلة الأصول بالأصول والزوائد بالزوائد، فأما مقابلة الأصول بالزوائد فغير جائز لأنه يقتضي الحيف والجور، ولعل منافع الغنم في تلك السنة كانت موازية لمنافع الكرم فحكم به، كما قال الشافعي رضي الله عنه: فيمن غصب عبداً فأبق من يده أنه يضمن القيمة لينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد فإذا ظهر ترادا.
السؤال الخامس: على تقدير أن ثبت قطعاً أن تلك المخالفة كانت مبنية على الاجتهاد، فهل تدل هذه القصة على أن المصيب واحد أو الكل مصيبون.
الجواب: أما القائلون بأن المصيب واحد ففيهم من استدل بقوله تعالى: {ففهمناها سليمان} قال ولو كان الكل مصيباً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بهذا التفهيم فائدة، وأما القائلون بأن الكل مصيبون ففيهم من استدل بقوله: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} ولو كان المصيب واحداً ومخالفه مخطئاً لما صح أن يقال: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} واعلم أن الإستدلالين ضعيفان.
أما الأول: فلأن الله تعالى لم يقل إنه فهمه الصواب فيحتمل أنه فهمه الناسخ ولم يفهم ذلك داود عليه السلام لأنه لم يبلغه وكل واحد منهما مصيب فيما حكم به، على أن أكثر ما في الآية أنها دالة على أن داود وسليمان عليهما السلام ما كانامصيبين وذلك لا يوجب أن يكون الأمر كذلك في شرعنا.
وأما الثاني: فلأنه تعالى لم يقل إن كلا آتيناه حكماً وعلماً بما حكم به، بل يجوز أن يكون آتيناه حكماً وعلماً بوجوه الاجتهاد وطرق الأحكام، على أنه لا يلزم من كون كل مجتهد مصيباً في شرعهم أن يكون الأمر كذلك في شرعنا.
السؤال السادس: لو وقعت هذه الواقعة في شرعنا ما حكمها؟
الجواب: قال الحسن البصري: هذه الآية محكمة، والقضاة بذلك يقضون إلى يوم القيامة، واعلم أن كثيراً من العلماء يزعمون أنه منسوخ بالإجماع ثم اختلفوا في حكمه فقال الشافعي رحمه الله: إن كان ذلك بالنهار لا ضمان لأن لصاحب الماشية تسييب ماشيته بالنهار، وحفظ الزرع بالنهار على صاحبه. وإن كان ليلاً يلزمه الضمان لأن حفظها بالليل عليه.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا ضمان عليه ليلاً كان أو نهاراً إذا لم يكن متعدياً بالإرسال، لقوله صلى الله عليه وسلم: «جرح العجماء جبار».
واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن البراء بن عازب أنه قال: كانت ناقة ضارية فدخلت حائطاً فأفسدته فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل وهذا تمام القول في هذه الآية. ثم إن الله تعالى ذكر بعد ذلك من النعم التي خص بها داود عليه أمرين: الأول: قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبّحْنَ والطير وَكُنَّا فاعلين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذا التسبيح وجهان:
أحدهما: أن الجبال كانت تسبح ثم ذكروا وجوهاً:
أحدها: قال مقاتل إذا ذكر داود عليه السلام ربه ذكرت الجبال والطير ربها معه.
وثانيها: قال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال.
وثالثها: قال سليمان بن حيان: كان داود عليه السلام إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطاً واشتياقاً.
القول الثاني: وهو اختيار بعض أصحاب المعاني أنه يحتمل أن يكون تسبيح الجبال والطير بمثابة قوله: {وَإِن مّن شَيْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] وتخصيص داود عليه السلام بذلك إنما كان بسبب أنه عليه السلام كان يعرف ذلك ضرورة فيزداد يقيناً وتعظيماً، والقول الأول أقرب لأنه لا ضرورة في صرف اللفظ عن ظاهره.
وأما المعتزلة فقالوا: لو حصل الكلام من الجبل لحصل إما بفعله أو بفعل الله تعالى فيه. والأول: محال لأن بنية الجبل لا تحتمل الحياة والعلم والقدرة، وما لا يكون حياً عالماً قادراً يستحيل منه الفعل.
والثاني: أيضاً محال لأن المتكلم عندهم من كان فاعلاً للكلام لا من كان محلاً للكلام، فلو كان فاعل ذلك الكلام هو الله تعالى لكان المتكلم هو الله تعالى لا الجبل، فثبت أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره فعند هذا قالوا في: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبّحْنَ} ومثله قوله تعالى: {ياجبال أَوّبِي مَعَهُ} [سبإ: 10] معناه تصرفي معه وسيري بأمره ويسبحن من السبح الذي السباحة خرج اللفظ فيه على التكثير ولو لم يقصد التكثير لقيل يسبحن فلما كثر قيل يسبحن معه، أي سيرى وهو كقوله: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] أي تصرفاً ومذهباً.
إذا ثبت هذا فنقول: إن سيرها هو التسبيح لدلالته على قدرة الله تعالى وعلى سائر ما تنزه عنه واعلم أن مدار هذا القول على أن بنية الجبل لا تقبل الحياة، وهذا ممنوع وعلى أن التكلم من فعل الله وهو أيضاً ممنوع.
المسألة الثانية: أما الطير فلا امتناع في أن يصدر عنها الكلام، ولكن أجمعت الأمة على أن المكلفين إما الجن أو الإنس أو الملائكة فيمتنع فيها أن تبلغ في العقل إلى درجة التكليف، بل تكون على حالة كحال الطفل في أن يؤمر وينهي وإن لم يكن مكلفاً فصار ذلك معجزة من حيث جعلها في الفهم بمنزلة المراهق، وأيضاً فيه دلالة على قدرة الله تعالى وعلى تنزهه عما لا يجوز فيكون القول فيه كالقول في الجبال.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف: يسبحن حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال: كيف سخرهن؟ فقال: يسبحن. والطير إما معطوف على الجبال وإما مفعول معه. فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان ناطق.
أما قوله: {وَكُنَّا فاعلين} فالمعنى أنا قادرون على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل نفعل ذلك بالأنبياء عليهم السلام.
الإنعام الثالث: قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اللبوس اللباس، قال ألبس لكل حالة لبوسها.
المسألة الثانية: لتحصنكم قرئ بالنون والياء والتاء وتخفيف الصاد وتشديدها، فالنون لله عز وجل والتاء للصنعة أو للبوس على تأويل الدرع والياء لله تعالى أو لداود أو للبوس.
المسألة الثالثة: قال قتادة: أول من صنع الدرع داود عليه السلام، وإنما كانت صفائح قبله فهو أول من سردها واتخذها حلقاً، ذكر الحسن أن لقمان الحكيم عليه السلام حضره وهو يعمل الدرع، فأراد أن يسأل عما يفعل ثم سكت حتى فرغ منها ولبسها على نفسه، فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله قالوا إن الله تعالى ألان الحديد له يعمل منه بغير نار كأنه طين.
المسألة الرابعة: البأس هاهنا الحرب وإن وقع على السوء كله، والمعنى ليمنعكم ويحرسكم من بأسكم أي من الجرح والقتل والسيف والسهم والرمح.
المسألة الخامسة: فيه دلالة على أن أول من عمل الدرع داود ثم تعلم الناس منه، فتوارث الناس عنه ذلك. فعمت النعمة بها كل المحاربين من الخلق إلى آخر الدهر، فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة فقال: {فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} أي اشكروا الله على ما يسر عليكم من هذه الصنعة، واعلم أنه سبحانه لما ذكر النعم التي خص داود بها ذكر بعده النعم التي خص بها سليمان عليه السلام، وقال قتادة: ورث الله تعالى سليمان من داود ملكه ونبوته وزاده عليه أمرين سخر له الريح والشياطين.
الإنعام الأول: قوله تعالى: {ولسليمان الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} أي جعلناها طائعة منقادة له بمعنى أنه إن أرادها عاصفة كانت عاصفة وإن أرادها لينة كانت لينة والله تعالى مسخرها في الحالتين، فإن قيل: العاصف الشديدة الهبوب، وقد وصفها الله تعالى بالرخاوة في قوله: {رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} فكيف يكون الجمع بينهما.
والجواب: من وجهين:
الأول: أنها كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} وكانت جامعة بين الأمرين رخاء في نفسها وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان عليه السلام وهبوبها على حسب ما يريد ويحكم آية إلى آية ومعجزة إلى معجزة.
الثاني: أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفاً، لأجل هبوبها على حكم إرادته.
المسألة السادسة: قرئ الريح والرياح بالرفع والنصب فيهما فالرفع على الابتداء والنصب للعطف على الجبال، فإن قيل: قال في دواد: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال} وقال في حق سليمان: {ولسليمان الريح} فذكره في حق داود عليه السلام بكلمة مع وفي حق سليمان عليه السلام باللام وراعى هذا الترتيب أيضاً في قوله: {ياجبال أَوّبِي مَعَهُ والطير} وقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِى بِأَمْرِهِ} فما الفائدة في تخصيص داود عليه السلام بلفظ مع، وسليمان باللام قلنا يحتمل أن الجبل لما اشتغل بالتسبيح حصل له نوع شرف، فما أضيف إليه بلام التمليك، أما الريح فلم يصدر عنه إلا ما يجري مجرى الخدمة، فلا جرم أضيف إلى سليمان بلام التمليك، وهذا إقناعي.
أما قوله: {إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا وكنا بكل شيءٍ عالمين} أي إلى المضي إلى بيت المقدس، قال الكلبي: كانت تسير في اصطخر إلى الشام يركب عليها سليمان وأصحابه.
أما قوله: {وَكُنَّا بِكُلّ شَيء عالمين} أي لعلمنا بالأشياء صح منا أن ندبر هذا التدبير في رسلنا وفي خلقنا، وأن نفعل هذه المعجزات القاهرة.
الإنعام الثاني: قوله تعالى: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حافظين} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد أنهم يغوصون له في البحار فيستخرجون الجواهر ويتجاوزون ذلك إلى الأعمال والمهن وبناء المدن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما قال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل وَجِفَانٍ} وأما الصناعات فكاتخاذ الحمام والنورة والطواحين والقوارير والصابون.
المسألة الثانية: قوله: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ} يعني وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له، فيكون في موضع النصب نسقاً على الريح قال الزجاج ويجوز أن يكون في موضع رفع من وجهين:
أحدهما: النسق على الريح، وأن يكون المعنى: ولسليمان الريح وله من يغوصون له من الشياطين، ويجوز أن يكون رفعاً على الابتداء ويكون له هو الخبر.
المسألة الثالثة: يحتمل أن يكون من يغوص منهم هو الذي يعمل سائر الأعمال، ويحتمل أنهم فرقة أخرى ويكون الكل داخلين في لفظة من وإن كان الأول هو الأقرب.
المسألة الرابعة: ليس في الظاهر إلا أنه سخرهم، لكنه قد روى أنه تعالى سخر كفارهم دون المؤمنين وهو الأقرب من وجهين:
أحدهما: إطلاق لفظ الشياطين.
والثاني: قوله: {وكنا لهم حافظين} فإن المؤمن إذا سخر في أمر لا يجب أن يحفظ لئلا يفسد، وإنما يجب ذلك في الكافر.
المسألة الخامسة: في تفسير قوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حافظين} وجوه:
أحدها: أنه تعالى وكل بهم جمعاً من الملائكة أو جمعاً من مؤمني الجن.
وثانيها: سخرهم الله تعالى بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم من مخالفته.
وثالثها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد وسلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء، فإن قيل وعن أي شيء كانوا محفوظين قلنا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تعالى كان يحفظهم عليه لئلا يذهبوا ويتركوه.
وثانيها؛ قال الكلبي كان يحفظهم من أن يهيجوا أحداً في زمانه.
وثالثها: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا فكان دأبهم أنهم يعملون بالنهار ثم يفسدونه في الليل.
المسألة السادسة: سأل الجبائي نفسه، وقال: كيف يتهيأ لهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة لا يقدرون على عمل الثقيل، وإنما يمكنهم الوسوسة؟ وأجاب بأنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزاً لسليمان عليه السلام، فلما مات سليمان ردهم الله إلى الخلقة الأولى لأنه لو بقاهم على الخلقة الثانية لصار شبهة على الناس، ولو ادعى متنبى النبوة وجعله دلالة لكان كمعجزات الرسل فلذا ردهم إلى خلقتهم الأولى، واعلم أن هذا الكلام ساقط من وجوه:
أحدها: لم قلت إن الجن من الأجسام، ولم لا يجوز وجود محدث ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز ويكون الجن منهم؟ فإن قلت: لو كان الأمر كذلك لكان مثلاً للباري تعالى، قلت: هذا ضعيف لأن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فكيف اللوازم السلبية، سلمنا أنه جسم، لكن لا يجوز حصول القدرة على هذه الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف، وكلامه بناء على البنية شرط وليس في يده إلا الاستقراء الضعيف. سلمنا أنه لابد من تكثيف أجسامهم لكن لم قلت بأنه لابد من ردها إلى الخلقة الأولى بعد موت سليمان عليه السلام، فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس قلنا التلبيس غير لازم، لأن المتنبي إذا جعل ذلك معجزة لنفسه فللمدعي أن يقول: لم لا يجوز أن يقال إن قوة أجسادهم كانت معجزة لنبي آخر قبلك، ومع قيام هذا الاحتمال لا يتمكن المتنبي من الاستدلال به، واعلم أن أجسام هذا العالم إما كثيفة أو لطيفة، أما الكثيف فأكثف الأجسام الحجارة والحديد وقد جعلهما الله تعالى معجزة لداود عليه السلام، فأنطق الحجر ولين الحديد وكل واحد منهما كما يدل على التوحيد والنبوة يدل على صحة الحشر، لأنه لما قدر على إحياء الحجارة فأي بعد في إحياء العظام الرميمة، وإذا قدر على أن يجعل في إصبع داود عليه السلام قوة النار مع كون الإصبع في نهاية اللطافة، فأي بعد في أن يجعل التراب اليابس جسماً حيوانياً، وألطف الأشياء في هذا العالم الهواء والنار، وقد جعلهما الله معجزة لسليمان عليه السلام، أما الهواء فقوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} وأما النار فلأن الشياطين مخلوقون منها وقد سخرهم الله تعالى فكان يأمرهم بالغوص في المياه والنار تنطفيء بالماء وهم ما كان يضرهم ذلك، وذلك يدل على قدرته على إظهار الضد من الضد.


{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}
(القصة السادسة، قصة أيوب عليه السلام)
اعلم أن في أمر أيوب عليه السلام وما ذكره الله تعالى من شأنه هاهنا وفي غيره من القرآن من العبر والدلائل ما ليس في غيره، لأنه تعالى مع عظيم فضله أنزل به من المرض العظيم ما أنزله مما كان غبرة له ولغيره ولسائر من سمع بذلك وتعريفاً لهم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الواجب على المرء أن يصبر على ما يناله من البلاء فيها، ويجتهد في القيام بحق الله تعالى ويصبر على حالتي الضراء والسراء وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال وهب بن منبه: كان أيوب عليه السلام رجلاً من الروم وهو أيوب ابن أنوص وكان من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط، وكان الله تعالى قد اصطفاه وجعله نبياً، وكان مع ذلك قد أعطاه من الدنيا حظاً وافراً من النعم والدواب والبساتين وأعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء، وكان رحيماً بالمساكين، وكان يكفل الأيتام والأرامل ويكرم الضيف وكان معه ثلاثة نفر قد آمنوا به وعرفوا فضله، قال وهب: وإن لجبريل عليه السلام بين يدي الله تعالى مقاماً ليس لأحد من الملائكة مثله في القربة والفضيلة، وهو الذي يتلقى الكلام فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقاه جبريل عليه السلام ثم تلقاه ميكائيل عليه السلام ثم من حوله من الملائكة المقربين، فإذا شاع ذلك فهم يصلون عليه. ثم صلت ملائكة السموات ثم ملائكة الأرض. وكان إبليس لم يحجب عن شيء من السموات، وكان يقف فيهن حيثما أراد، ومن هناك وصل إلى آدم عليه السلام حتى أخرجه من الجنة. ولم يزل على ذلك حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع. فكان يصعد بعد ذلك إلى ثلاث إلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فحجب عند ذلك عن جميع السموات إلا من استرق السمع، قال: فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب فأدركه الحسد، فصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه، فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجربه بشدة ولا بلاء وأنا لك زعيم لئن ضربته بالبلاء ليكفرن بك، فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فانقض الملعون حتى وقع إلى الأرض وجمع عفاريت الشياطين، وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب؟ قال عفريت: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار فأحرقت كل شيء آتى عليه، فقال إبليس: فأت الإبل ورعاءها فذهب ولم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها شيء إلا احترق فلم يزل يحرقها ورعاءها حتى أتى على آخرها، فذهب إبليس على شكل بعض أولئك الرعاة إلى أيوب فوجده قائماً يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما صنع ربك الذي اخترته بإبلك ورعائها؟ فقال أيوب: إنها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه.
قال إبليس: فإن ربك أرسل عليها ناراً من السماء فاحترقت ورعاؤها كلها وتركت الناس مبهوتين متعجبين منها. فمن قائل يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان إلا في غرور، ومن قائل يقول: لو كان إله أيوب يقدر على شيء لمنع من وليه، ومن قائل آخر يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت عدوه به ويفجع به صديقه. فقال أيوب عليه السلام: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله تعالى، ولو علم الله فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيداً وآجرني فيك، ولكن الله علم منك شراً فأخرك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه، فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها. فخرج إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول: ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغراً. فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه، قال فاذهب إلى الحرث والثيران فأتاهم فأهلكهم ثم رجع إبليس متمثلاً حتى جاء أيوب وهو يصلي، فقال مثل قوله الأول فرد عليه أيوب الرد الأول، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئاً فشيئاً حتى أتى على جميعها.
فلما رأى إبليس صبره على ذلك وقف الموقف الذي كان يقفه عند الله تعالى، وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده، فإنها الفتنة المضلة. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فلم يزل يزلزله بهم من قواعده حتى قلب القصر عليهم، ثم جاء إلى أيوب متمثلاً بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه، فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك، فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب عليه السلام وبكى وقبض قبضة من التراب ووضعها على رأسه، فاغتنم ذلك إبليس، ثم لم يلبث أيوب عليه السلام حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: يا إلهي إنما يهون على أيوب خطر المال والولد، لعلمه أنك تعيد له المال والولد فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك، فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه فانقض عدو الله سريعاً فوجد أيوب عليه السلام ساجداً لله تعالى فأتاه من قبل الأرض فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وخرج به من فرقه إلى قدمه ثآليل وقد وقعت فيه حكة لا يملكها، وكان يحك بأظفاره حتى سقطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير ونتن، فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت افرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره، ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثاً متضرعاً إليه فقال: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، ويا ليتني كنت عرفت الذنب الذي أذنبته، والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني، ألم أكن للغريب داراً، وللمسكين قراراً، ولليتيم ولياً، وللأرملة قيماً، إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي، جعلتني للبلاء غرضاً، وللفتنة نصباً، وسلطت علي ما لو سلطته على جبل لضعف من حمله. إلهي تقطعت أصابعي، وتساقطت لهواتي، وتناثر شعري وذهب المال، وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها علي ويعيرني بفقري وهلاك أولادي.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله، وفي جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني، ثم قال: ولو كان ذلك صحيحاً لاغتنمه إبليس، فإن قصده أن يحمله على الشكوى، وأن يخرجه عن حلية الصابرين، والله تعالى لم يخبر عنه إلا قوله: {أَنّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} ثم قال: {إِنَّا وجدناه صَابِراً نّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44] واختلف العلماء في السبب الذي قال لأجله: {أَنّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} وفي مدة بلائه. فالرواية الأولى: روى ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان ويروحان إليه، فقال أحدهما للآخر ذات يوم: والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، فقال له صاحبه: وما ذاك؟ فقال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ولم يكشف ما به. فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك لأيوب عليه السلام. فقال أيوب: ما أدري ما تقولون، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في حق. وفي رواية أخرى: أن الرجلين لما دخلا عليه وجدا ريحاً فقالا: لو كان لأيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة، قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلى به أشد مما سمع منهما، فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت شبعاناً وأنا أعلم بمكان جائع فصدقني فصدقه وهما يسمعان، ثم خر أيوب عليه السلام ساجداً ثم قال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي قال فكشف الله ما به».
الرواية الثانية: قال الحسن رحمه الله: مكث أيوب عليه السلام بعد ما ألقى على الكناسة سبع سنين وأشهراً، ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته رحمة صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام وتحمد الله تعالى مع أيوب وكان أيوب مواظباً على حمد الله تعالى والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه، فصرخ إبليس صرخة جزعاً من صبر أيوب، فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فلم أدع له مالاً ولا ولداً ولم يزدد بذلك إلا صبراً وحمداً لله تعالى، ثم سلطت على جسده فتركته ملقى في كناسة وما يقربه إلا امرأته، وهو مع ذلك لا يفتر عن الذكر والحمد لله، فاستعنت بكم لتعينوني عليه فقالوا له: أين مكرك! أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ قال: بطل ذلك كله في أيوب فأشيروا علي، قالوا: أدليت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال من قبل امرأته، قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم فانطلق حتى أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل، فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده، فلما سمعها طمع أن يكون ذلك كله جزعاً، فوسوس إليها وذكرها ما كان لها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه.
قال الحسن رحمه الله: فصرخت، فلما صرخت علم أنها قد جزعت فأتاها بسخلة، وقال ليذبح هذه لي أيوب ويبرأ، قال: فجاءت تصرخ إلى أيوب يا أيوب حتى متى يعذبك ربك، ألا يرحمك أين المال، أين الماشية، أين الولد، أين الصديق، أين اللون الحسن، أين جسمك الذي قد بلى وصار مثل الرماد، وتردد فيه الدواب أذبح هذه السخلة واسترح؟ فقال أيوب عليه السلام: أتاك عدو الله ونفخ فيك فأجبتيه! ويلك أترين ما تبكين عليه مما تذكرين مما كنا فيه من المال والولد والصحة، من أعطانا ذلك؟ قالت الله. قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر، قال ويلك، والله ما أنصفت ربك، ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة كما كنا في الرخاء ثمانين سنة. والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة. أمرتيني أن أذبح لغير الله، وحرام علي أن أذوق بعد هذا شيئاً من طعامك وشرابك الذي تأتيني به، فطردها فذهبت، فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق، وقد ذهبت امرأته خر ساجداً، وقال: {رَبِّ إِنّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} فقال: ارفع رأسك فقد استجبت لك {اركض بِرِجْلِكَ} فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها، فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت منه، ثم ضرب برجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها، فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحاً، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن ما كان، ثم كسى حلة فلما قام جعل يلتفت فلا يرى شيئاً مما كان له من الأهل والولد والمال، إلا وقد ضعفه الله تعالى حتى صار أحسن مما كان، حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب، قال: فجعل يضمه بيده فأوحى الله إليه يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها، قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف، ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعن إليه، فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وإذا بالأمور قد تغيرت، فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وذلك بعين أيوب عليه السلام، وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله عنه فأرسل إليها أيوب عليه السلام ودعاها وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أردت ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة، فقال لها أيوب عليه السلام: ما كان منك، فبكت وقالت بعلي، فقال: أتعرفينه إذا رأيتيه، قالت وهل يخفى على أحد يراه! فتبسم وقال: أنا هو، فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال إنك أمرتيني أن أذبح سخلة لإبليس، وإني أطعت الله وعصيت الشيطان ودعوت الله تعالى فرد علي ما ترين. الرواية الثالثة: قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وقال وهب رحمه الله بقي في البلاء ثلاث سنين، فلما غلب أيوب إبليس لعنه الله ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم، قال: فهل تعرفيني؟ قالت لا: قال: أنا إله الأرض أنا صنعت بأيوب ما صنعت، وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليك وعليه جميع مالكما من مال وولد فإن ذلك عندي، قال وهب وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاماً ولم يسم الله تعالى لعوفي مما هو فيه من البلاء، وفي رواية أخرى: بل قال لها لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك، فرجعت إلى أيوب فأخبرته بما قال لها، فقال لها أيوب: أتاك عدو الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجدلنك مائة جلدة، وقال عند ذلك {مَسَّنِىَ الضر} يعني من طمع إبليس في سجودي له وسجود زوجتي ودعائه إياها وإياي إلى الكفر. الرواية الرابعة: قال وهب: كانت امرأة أيوب عليه السلام تعمل للناس وتأتيه بقوته، فلما طال عليه البلاء سئمها الناس فلم يستعملوها فالتمست ذات يوم شيئاً من الطعام فلم تجد شيئاً فجزت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها: أين قرنك فأخبرته بذلك، فحينئذ قال: {مَسَّنِىَ الضر}. الرواية الخامسة: قال إسماعيل السدي: لم يقل أيوب مسني الضر إلا لأشياء ثلاث.
أحدها: قول الرجلين له لو كان عملك الذي كنا نرى لله تعالى لما أصابك الذي أصابك.
وثانيها: كان لامرأته ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزاً ولحماً فجاءت إلى أيوب عليه السلام فقال من أين هذا؟ فقالت: كل فإنه حلال فلما كان من الغد لم تجد شيئاً فباعت الثانية وكذلك فعلت في اليوم الثالث، وقالت: كل فإنه حلال فقال: لا آكل ما لم تخبريني فأخبرته، فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم، وقيل: إنما باعت ذوائبها لأن إبليس تمثل لقوم في صورة بشر، وقال: لئن تركتم أيوب في قريتكم فإني أخاف أن يعدي إليكم ما به من العلة فأخرجوه إلى باب البلد، ثم قال لهم: إن امرأته تدخل في بيوتكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فباعت ضفيرتها.
وثالثها: حين قالت له امرأته ما قالت فحينئذ دعا. الرواية السادسة: قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها، وقال قد جعلني الله تعالى طعمة لك فعضته عضة شديدة، فقال: مسني الضر. فأوحى الله تعالى إليه لولا أني جعلت تحت كل شعرة منك صبراً لما صبرت.
المسألة الثانية: إعلم أن المعتزلة قد طعنوا في هذه القصة من وجوه:
أحدها: قال الجبائي: ذهب بعض الجهال إلى أن ما كان به من المرض كان فعلاً للشيطان سلطه الله عليه، لقوله تعالى حكاية عنه: {مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} وهذا جهل، أما أولاً فلأنه لو قدر على إحداث الأمراض والأسقام وضدهما من العافية لتهيأ له فعل الأجسام، ومن هذا حاله يكون إلهاً، وأما ثانياً فلأن الله تعالى أخبر عنه وعن جنوده بأنه قال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} [إبراهيم: 22] والواجب تصديق خبر الله تعالى، دون الرجوع إلى ما يروى عن وهب بن منبه رضي الله عنه.
واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف لأن المذكور في الحكاية أن الشيطان نفخ في منخره فوقعت الحكة فيه، فلم قلتم إن القادر على النفخة التي تولد مثل هذه الحكة لابد وأن يكون قادراً على خلق الأجسام، وهل هذا إلا محض التحكم، وأما التمسك بالنص فضعيف لأنه إنما يقدم على هذا الفعل متى علم أنه لو أقدم عليه لما منعه الله تعالى عنه، وهذه الحالة لم تحصل إلا في حق أيوب عليه السلام على ما دلت الحكاية عليه من أنه استأذن الله تعالى فأذن له فيه، ومتى كان كذلك لم يبق بين ذلك النص وبين هذه الحكاية مناقضة.
وثانيها: قالوا: ما روي أنه عليه السلام لم يسأل إلا عند أمور مخصوصة فبعيد، لأن الثابت في العقل أنه يحسن من المرء أن يسأل في ذلك ربه ويفزع إليه كما يحسن منه المداواة، وإذا جاز أن يسأل ربه عند الغم مما يراه من إخوانه وأهله جاز أيضاً أن يسأل ربه من قبل نفسه، فإن قيل: أفلا يجوز أنه تعالى تعبده بأن لا يسأل الكشف إلا في آخر أمره، قلنا: يجوز ذلك بأن يعلمه بأن إنزال ذلك به مدة مخصوصة من مصالحه ومصالح غيره لا محالة، فعلم عليه السلام أنه لا وجه للمسألة في هذا الأمر الخاص، فإذا قرب الوقت جاز أن يسأل ذلك، من حيث يجوز أن يدوم ويجوز أن ينقطع.
وثالثها: قالوا: انتهاء ذلك المرض إلى حد التنفير عنه غير جائز، لأن الأمراض المنفرة من القبول غير جائزة على الأنبياء عليهم السلام فهذا جملة ما قيل في هذه الحكاية.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف قوله تعالى: {أَنّي مَسَّنِيَ الضر} أي ناداه بأني مسني الضر، وقرئ إني بالكسر على إضمار القول أو لتضمين النداء معناه، والضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
المسألة الرابعة: أنه عليه السلام ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب، فإن قيل: أليس أن الشكوى تقدح في كونه صابراً.
والجواب: قال سفيان بن عيينة رحمه الله من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعاً إذا كان في شكواه راضياً بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء، ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] أما قوله: {وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين} فالدليل على أنه سبحانه: {أَرْحَمُ الرحمين} أمور.
أحدها: أن كل من رحم غيره فأما أن يرحمه طلباً للثناء في الدنيا أو الثواب في الآخرة أو دفعاً للرقة الجنسية عن الطبع، وحينئذ يكون مطلوب ذلك الراحم منفعة نفسه، أما الحق سبحانه فإنه يرحم عباده من غير وجه من هذه الوجوه، ومن غير أن يعود إليه من تلك الرحمة زيادة ولا نقصان من الثناء ومن صفات الكمال، فكان سبحانه أرحم الراحمين.
وثانيها: أن كل من يرحم غيره فلا يكون ذلك إلا بمعونة رحمة الله تعالى لأن من أعطى غيره طعاماً أو ثوباً أو دفع عنه بلاء، فلولا أنه سبحانه خلق المطعوم والملبوس والأدوية والأغذية وإلا لما قدر أحد على إعطاء ذلك الشيء، ثم بعد وصول تلك العطية إليه، فلولا أنه سبحانه جعله سبباً للراحة لما حصل النفع بذلك، فإذاً رحمة العباد مسبوقة برحمة الله تعالى وملحوقة برحمته بل رحمتهم فيما بين الطرفين كالقطرة في البحر، فوجب أن يكون تعالى هو أرحم الراحمين.
وثالثها: أن الله تعالى لو لم يخلق في قلب العبد تلك الدواعي والإرادات لاستحال صدور ذلك الفعل عنه، فكان الراحم هو الحق سبحانه، من حيث إنه هو الذي أنشأ تلك الداعية، فثبت أنه أرحم الراحمين فإن قيل كيف يكون أرحم الراحمين مع أنه سبحانه ملأ الدنيا من الآفات والأسقام والأمراض والآلام وسلط البعض على البعض بالذبح والكسر والإيذاء، وكان قادراً على أن يغني كل واحد عن إيلام الآخر وإيذائه؟ والجواب: أن كونه سبحانه ضاراً لا ينافي كونه نافعاً، بل هو الضار النافع فإضراره ليس لدفع مشقة وإنفاعه ليس لجلب منفعة، بل لا يسأل عما يفعل.
أما قوله تعالى: {فاستجبنا لَهُ} فإنه يدل على أنه دعا ربه، لكن هذا الدعاء قد يجوز أن يكون واقعاً منه على سبيل التعريض، كما يقال إن رأيت أو أردت أو أحببت فافعل كذا. ويجوز أن يكون على سبيل التصريح وإن كان الأليق بالأدب وبدلالة الآية هو الأول، ثم إنه سبحانه بين أن كشف ما به من ضر وذلك يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله، وبين الله تعالى أنه آتاه أهله ويدخل فيه من ينسب إليه من زوجة وولد وغيرهما ثم فيه قولان:
أحدهما: وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومقاتل والكلبي وكعب رضي الله عنهم أن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم.
والثاني: روى الليث رضي الله عنه، قال: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسأله عن الآية فقال: قيل له إن أهلك لك في الآخرة فإن شئت عجلناهم لك في الدنيا، وإن شئت كانوا لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقال: يكونون لي في الآخرة وأوتي مثلهم في الدنيا.
والقول الأول أولى لأن قوله: {وآتيناه أهله} يدل بظاهره على أنه تعالى أعادهم في الدنيا وأعطاه معهم مثلهم أيضاً.
وأما قوله تعالى: {وذكرى للعابدين} ففيه دلالة على أنه تعالى فعل ذلك لكي يتفكر فيه فيكون داعية للعابدين في الصبر والإحتساب، وإنما خص العابدين بالذكر؛ لأنهم يختصون بالانتفاع بذلك.


{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)}
(القصة السابعة)
اعلم أنه تعالى لما ذكر صبر أيوب عليه السلام وانقطاعه إليه أتبعه بذكر هؤلاء فإنهم كانوا أيضاً من الصابرين على الشدائد والمحن والعبادة، أما إسماعيل عليه السلام فلأنه صبر على الإنقياد للذبح، وصبر على المقام ببلد لا زرع فيه ولا ضرع ولا بناء، وصبر في بناء البيت، فلا جرم أكرمه الله تعالى وأخرج صلبه خاتم النبيين، وأما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم عليها السلام، قال ابن عمر رضي الله عنهما: بعث إلى قومه داعياً لهم إلى الله تعالى فأبوا فأهلكهم الله تعالى ورفع إدريس إلى السماء الرابعة وأما ذوا الكفل ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فيها بحثان:
الأول: قال الزجاج الكفل في اللغة الكساء الذي يجعل على عجز البعير، والكفل أيضاً النصيب واختلفوا في أنه لم سمي بهذا الاسم على وجوه:
أحدها: وهو قول المحققين أنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم.
وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية: إن نبياً من أنبياء بني إسرائيل آتاه الله الملك والنبوة ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح ويصوم بالنهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك، فقام شاب وقال: أنا أتكفل لك بهذا. فقال في القوم: من هو أكبر منك فاقعد ثم صاح الثانية والثالثة فقام الرجل وقال: أتكفل لك بهذه الثلاث فدفع إليه ملكه، ووفى بما ضمن. فحسده إبليس فأتاه وقت ما يريد أن يقيل، فقال: إن لي غريماً قد مطلني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد عند القيلولة فقال: إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب وبقي منتظراً حتى فاتته القيلولة، ثم أتاه فقال له: هرب مني فمضى ذو الكفل إلى صلاته فصلى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس وعرفه نفسه، وقال له: حسدتك على عصمة الله إياك فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به، فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه، فسمي ذا الكفل. وعلى هذا فالمراد بالكفل هنا الكفالة.
وثالثها: قال مجاهد: لما كبر اليسع عليه السلام، قال: لو أني استخلفت رجلاً على الناس في حياتي حتى أنظر كيف يعمل، فجمع الناس وقال من يتقبل مني حتى استخلفه ثلاثاً يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي فلا يغضب، وذكر علي كرم الله وجهه نحو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنه من فعل إبليس وتفويته عليه القيلولة ثلاثة أيام. وزاد أن ذا الكفل قال للبواب في اليوم الثالث: قد غلب علي النعاس فلا تدعن أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإني قد شق علي النعاس، فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة في البيت وتسور فيها فإذا هو يدق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب، فقال: أما من قبلي فلم تؤت. فقام إلى الباب فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ معه في البيت، فقال له: أتنام والخصوم على الباب. فعرفه فقال: أنت إبليس، قال نعم أعييتني في كل شيء ففعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني. فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بما تكفل به.
المسألة الثانية: قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومجاهد ذو الكفل لم يكن نبياً ولكن كان عبداً صالحاً، وقال الحسن والأكثرون إنه من الأنبياء عليهم السلام وهذا أولى الوجوه:
أحدها: أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقباً وأن يكون اسماً، والأقرب أن يكون مفيداً، لأن الاسم إذا أمكن حمله على ما يفيد فهو أولى من اللقب.
إذا ثبت هذا فنقول الكفل هو النصيب والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون ذلك الكفل هو كفل الثواب فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثواب عمله كان ضعف عمل غيره وضعف ثواب غيره ولقد كان في زمنه أنبياء على ما روي ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء.
وثانيها: أنه تعالى قرن ذكره بذكر إسماعيل وإدريس والغرض ذكر الفضلاء من عباده ليتأسى بهم وذلك يدل على نبوته.
وثالثها: أن السورة ملقبة بسورة الأنبياء فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي.
المسألة الثالثة: قيل إن ذا الكفل زكريا وقيل يوشع وقيل إلياس، ثم قالوا خمسة من الأنبياء سماهم الله تعالى باسمين: إسرائيل ويعقوب، إلياس وذو الكفل، عيسى والمسيح، يونس وذو النون، محمد وأحمد.
وأما قوله تعالى: {كُلٌّ مّنَ الصابرين} أي على القيام بأمر الله تعالى واحتمال الأذى في نصرة دينه. وقوله: {وأدخلناهم فِي رَحْمَتِنَا} قال مقاتل: الرحمة النبوة، وقال آخرون بل يتناول جميع أعمال البر والخير.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11